تاريخ صفد

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني

تاريخ صفد

المؤلف:

محمّد بن عبد الرحمن الحسيني العثماني


المحقق: الدكتور سهيل زكار
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: التكوين للتأليف والترجمة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٨٠

رماة القسي العقارة ، وعناصر أخرى بلغ عددهم ثمانمائة وعشرين ، كما كان هناك أربعمائة من الرقيق ، لابد أنهم كانوا من الأسرى المسلمين ، وبلغت نفقات البناء في العامين والنصف الأولين مبلغ مليون ومائة ألف دينار إسلامي ، وهو أعلى وأكثر من الموارد المعتادة التي جبيت من الأراضي المجاورة المتعلقة بها ، «وقد استهلكوا هناك سنويا حمولة قرابة اثني عشر ألف حمل بغل من الشعير والقمح ، عدا عن الأطعمة الأخرى ، والأعطيات التي منحت إلى المرتزقة والناس المستأجرين ، والخيول والمطايا ، والأسلحة والضروريات الأخرى ، فهذه كلها لم يكن من الممكن تعدادها» ، وجمعت الإمدادات من الأراضي الزراعية المجاورة ، ومن الأطعمة التي جمعها الصيادون التابعون للقلعة ، مع صيادي الأسماك ، وجلبت الأسماك طازجة يوميا من بحيرة طبرية ومن نهر الأردن ، وملحت ، وكان بين التجهيزات التي استخدمت لإعداد الأطعمة : الريح ، والماء ، والطاقة الحيوانية التي تدير الطواحين ، وشملت الأراضي التي اعتمدت عليها قرى كبيرة على الجانب الغربي للقلعة ، التي امتلكت سوقها الخاص ، وأكثر من مائتين وستين قرية أخرى (كاساليا) ، التي ادعى الكاتب بأنها احتوت حوالي عشرة آلاف رجل قادر.

ومع أنه من الصعب ـ إن لم يكن من المستحيل ـ أن تتمكن أية قلعة من إغلاق أي طريق بالكامل ، وفق منطق الدفاعات المعاصرة ، لقد كان لإعادة بناء صفد مؤثرات بالغة على سلامة المنطقة ورخائها ، ففي حين كانت من قبل تجري غارات متوالية كان يقوم بها : «المسلمون ، والبدو ، والخوارزمية ، والتركمان» ، نجد أن قلعة صفد «وضعت هناك دفاعا ، وعائقا ، لذلك لم يعودوا يتجرأون على إلحاق الأذى ، بعبور نهر الأردن بشكل مكشوف والتوغل بعيدا حتى عكا ، ما لم يكن معهم جيشا كبيرا جدا ، وذهبت من عكا إلى صفد خيول النقل المحملة

٦١

والعربات بسلام من قبل الجميع» ، وبالمقابل تعرضت المناطق التي وقعت خلف الأردن باتجاه دمشق للدمار ، وخضعت لغارات مستمرة قام بها فرسان داوية من حامية القلعة ، ولعل الشيء الذي كان أكثر أهمية من كل شيء بالنسبة للأسقف هو حقيقة أنه بات من الممكن التبشير بحرية بالعقيدة المسيحية ، في منطقة كانت خاضعة من قبل «لتجديفات محمد» (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ، والأماكن المشهورة بالجليل التي أصبح المؤمنون معتادين عليها من خلال الكتاب المقدس ، غدت الآن من جديد يمكن الوصول إليها ، وكان بين هذه الأماكن صهريج فيه جرى بيع يوسف من قبل إخوانه ، وكفرنا حوم ، المكان الذي وعظ يسوع فيه ، ووجد بطرس مال الجزية في فم سمكه ، وحيث ترك متى بيت التعشير للالتحاق بالرسل ، وطرف الهضبة ، حيث أطعم يسوع خمسة آلاف ، «وفضل من الطعام اثني عشر زبيلا مليئة بالفتات» ، و «مائدة الرب» حيث تجلى يسوع بنفسه إلى تلاميذه بعد الفصح ، وبعد بحيرة طبريا نفسها كانت هناك قرية بيت صيدا ، مسقط رأس : بطرس ، وأندرو ، وفيليب ، وجيمس الأصغر ، وقرية مجدلون ، مسقط رأس المجدلانية ، وعلاوة على ذلك بات الآن من الممكن بحرية الزيارة مجددا : للناصرة ، وجبل الطور ، وقانا الجليل ، وأكدت المصادر الإسلامية على قيمة القلعة التي أقامها الفرنجة ، فقد وصفها المؤرخ المصري ابن الفرات من القرن الرابع عشر ، والذي اعتمد على مصادر معاصرة بأنها كانت غصة في حلق الشام ، وشوكة في صدر الإسلام ، وقد بقيت هكذا إلى أن جلب بيبرس نهايتها.

واستمرت زيارة بيندكت الثانية للأرض المقدسة حتى العام ١٢٦٢ ، وقد مات هو نفسه في العام ١٢٦٧ ، ولابد أنه عاش ما كان فيه كفاية ليسمع الأخبار عن سقوط «هذه القلعة التي لا ترام ، والتي لا يمكن الوصول إليها» ، فقد حاول بيبرس ثلاث مرات في تموز العام ١٢٦٦ ،

٦٢

أن يستولي عليها ، لكن من دون نجاح ، إلى أن اعتمد على خطة زرع الشقاق بين الداوية والمسيحيين السريان في داخلها ، وكانت هذه حركة بارعة ، بحكم الحجم الصغير نسبيا للحامية الداوية ، وذلك بالمقارنة مع العدد الأكبر من العساكر المحليين والعبيد ، ذلك أنه ما لبث أن تم إقناع العدد الأكبر من السريان بترك القلعة ، بناء على وعد بالأمان ، ولذلك باتت جدوى الاستمرار بالدفاع موضع سؤال ، وأقنع هذا الداوية لإرسال سيرجندي سرياني اسمه الراهب ليون كيزليرLeon cazelier للتباحث بالاستسلام ، ذلك أنه عرف العربية ، ويبدو أنه نجح في ترتيب إخلاء القلعة ، وتأمين الصليبيين حتى الوصول إلى عكا ، ولكن حدث ـ على كل حال ـ أنه عندما باتت الأبواب مفتوحة أرسل بيبرس النساء والأطفال إلى حياة العبودية ، ومثلما حدث لأسلافهم قبل ثمانين عاما جرى إعدام الداوية ، وقال المؤرخ المعروف باسم «الداوي الصوري» ، بأن ليون امتلك معلومات جيدة عن الحوادث ، لأنه عمل ـ كما يبدو ـ في أمانة سر الداوية في الشرق ، وقد أقدم «خوفا من الموت على اقتراف هذه الخيانة» ، وقد استثير بورتشارد أوف جبل صهيون بصفد مثلما أثارته عثليت ، فقال : «هذه بحكمي خيانة مهينة بحق أجمل وأمنع جميع القلاع التي رأيتها» ، وفتحت خسارتها ليس منطقة الجليل فقط ، ولكن البلاد امتدادا حتى : عكا ، وصور ، وصيدا ، وكان هيوج رافيل مقدم الاسبتارية أقل تملقا ، حين علق بشكل لاذع بأن صفد «التي تحدث الداوية عنها كثيرا» ، لن يكون بإمكانها الصمود أكثر من ستة عشر يوما ، وانتشرت الأخبار بسرعة في الغرب ، ويقول مؤرخ سينت مارتيل أوف ليموغيزMartial of Limoges المجهول بأن خسارة صفد أقنعت الملك لويس التاسع ، أن عليه أن يجدد ميثاقه الصليبي ، ورأى ـ في الوقت نفسه ـ مؤرخ دير القديس بطرس في إيرفورت Er ـ furt في سكسونيا ، واعتقد بأن بيبرس كان قادرا على إخضاع البلاد كلها ، لأنه استولى على هذه القلعة.

٦٣

مدخل :

(نص الداوي المجهول)

تروي هذه الكراسة الموجزة خبر إعادة بناء قلعة صفد ، منذ العام ١٢٤٠ فصاعدا ، وذلك من قبل داوي ، وتتمحور الرواية حول بنيويت دي ألنان Benoit d\'Alignan أسقف مرسيليا من العام ١٢٢٩ إلى العام ١٢٦٧ ، والذي زار الأرض المقدسة مرتين في العام ١٢٣٩ ـ ١٢٤٠ ، والعام ١٢٦٠ ـ ١٢٦٢ ، ويبدو أنه كان هو صاحب فكرة إعادة بناء القلعة ، حسبما هو واضح في الكراسة ، والنص موجود في مخطوطتين أولاهما في باريس من القرن الرابع عشر ، والأخرى مخطوطة إيطالية غير مؤرخة موجودة في تورين Turin ، وكلتاهما مجلدتان مع نصوص صليبية بما في ذلك «تاريخ الغرب» لجاك دي فيتري ، ولابد أن الكراسة قد كتبت فيما بين العام ١٢٦٠ ـ عندما زار بنيويت صفد للمرة الثانية ـ والعام ١٢٦٦ عندما سقطت القلعة للمسلمين ، ومن المحتمل أن مؤلفها المجهول قد صنفها ببساطة لتخليد ذكرى عمل الأسقف ، لكن من المرجح أكثر أنها كانت رسالة جمع تبرعات صممت حتى تقرأ ، أو لتكون أساسا لقداسات ولإلتماسات ، وقد ألحت على نفقات وتكاليف القلعة ، ومنفعتها المستمرة للصليبيين ، وفي القسم الأخير دورها في حماية الأماكن المقدسة المعروفة بشكل جيد ، وهذه كلها احتمالات قوية ، ومهما كان الوازع لدى المؤلف تبقى الرسالة ـ على كل حال ـ أكمل رواية وأكثرها إحاطة نحن نمتلكها حول الظروف التي أحاطت ببناء أية قلعة في العصور الوسطى ، فهذه الرواية تزودنا برؤية نافذة داخل ما فكر به المعاصرون واعتقدوه حول الموضوع.

بناء قلعة صفد

بما أن نيتنا هي دائمة ثابتة وملتزمة دوما بالغيرة والحماسة حول جميع

٦٤

الأشياء من أجل تشريف الرب ، وهي مركّزة باستمرار وبشكل رئيسي على الأشياء التي نقدر أنها من أجل رفع شأن الإيمان والكنيسة ، وتنوير الذين من حولنا ، وخلاص أنفسنا ، وتأييد الأرض المقدسة نحن نقترح بأن ننطلق نحو الأمام خاصة وبشكل رئيسي حول : متى ، ولماذا كان الشروع ببناء قلعة صفد ، وكيف بنيت؟.

لماذا ومتى وكيف بدأ بناء قلعة صفد

وصل جيش من الصليبيين كبير كان بينهم : ملك نافار ، وكونت شامبين ، ودوق بيرغندي ، وكونت بريتاني ، وكونت نافار وفوريزFo ـ rez ، وكونت أوف مونتفورت ، وكونت أوف بار ، وكونت أوف ماكون ، وعدد كبير آخر من الكونتات والبارونات لتأييد الأرض المقدسة ، وفي هذا الجيش كان عدد الفرسان مع التجهيزات العسكرية أكثر من ألف وخمسمائة ، وذلك بالإضافة إلى الذين لم يكن لديهم ما يكفي من تجهيزات عسكرية ، وحشد لا يمكن تعداده تقريبا من رماة القسي العقارة ، والجنود الرجالة ، وعند ما وصلوا إلى يافا وعسقلان ، تناقشوا حول كيف ينبغي أن يسيروا ، وقام بعض النبلاء الذين وثقوا بقوتهم ، ولم يقيموا وزنا لنصائح الداوية والاسبتارية ، ورجال الكنيسة الآخرين ، ونبلاء البلاد بمغادرة الجيش أثناء الليل ، وبما أنهم لم يعطوا المجد للرب الذي إليه يعود النصر ، بل حاولوا عوضا عن ذلك أن ينالوه لأنفسهم لحقت بهم هزيمة مهينة ، فكثير منهم وقع بالأسر ، وقتل ، ودفع الجيش مهزوما إلى يافا في حالة فوضى كبيرة ، وهنا وفي سبيل تخفيف الألم وتلطيف وقع المأساة تقرر إعادة بناء قلعة صفد ، وبما أنهم لن يستطيعوا بناء مثل هذا العمل الجيد في جميع البلاد ، ولكي يكون بإمكان مقدم الداوية أن يبدأ بالعمل ، وعدوه بأن يدفعوا له مبلغ سبعة آلاف مارك حتى يدفع من أجل العمارة ، وأن الجيش سوف يقف هناك لمدة شهرين ، وبذلك يمكن أن تبنى بأمان أكبر وبسهولة.

٦٥

ولكنهم عندما عادوا إلى عكا الرملية نسيوا وعودهم ، ولم يذهبوا للبناء ، كما أنهم لم يسهموا بأي شيء من أجله ، وعندما عقدت هدنة مع سلطان دمشق عاد الملك ورجال الجيش الكبير إلى بلادهم ، وذهب أسقف مرسيليا بالحقيقة باسم البابا بندكتوس إلى القديسة مريم في صيدنايا ، وذلك بقصد الحج بناء على إذن السلطان ، وعندما كان ينتظر في دمشق لعدة أيام بناء على أوامر من السلطان سأله كثير من الناس مرارا ، واستوضحوا منه عما إذا كانت صفد سوف تعاد عمارتها ، وعندما سألهم لماذا يتقصون عن ذلك بإلحاح واستمرار ، أجابوه أنه مع بناء قلعة صفد سوف تغلق أبواب دمشق.

ولذلك عندما عاد الأسقف من دمشق فحص بدقة البلاد حتى صفد ، فلم ير أية قلعة باستثناء الصبيبة التي كانت بيد ابن أخي السلطان ، وعندما وصل إلى صفد وجد هناك كومة من الحجارة من دون وجود أي بناء ، وذلك حيث كان مرة قلعة مهمة ومشهورة ، واستقبل هناك بسرور كبير من قبل الراهب رينهاردوس دي كاروRainhardus de caro الذي كان القسطلان هناك في ذلك الوقت ، لكنهم لم يجدوا أي مكان هناك ليناموا فيه باستثناءgarbelarias (أردية منسوجة من الصوف والكتان ، أو ربما حشايا) حملهم خدم الراهب ، وعليهم عملوا أسرة لسادتهما.

وعندما تقصى الأسقف بعناية حول المحيط وحول منطقة القلعة ، ولماذا كان المسلمون خائفون إلى هذه الدرجة من بنائها ، وجد أنه لو بنيت القلعة سوف تكون دفاعا وأمانا ، ومثل الترس بالنسبة للصليبيين بعيدا حتى عكا ، ضد المسلمين ، ولسوف تكون قاعدة قوية وهائلة من أجل الهجوم ، ولتأمين الحاجيات والفرص للقيام بأعمال الانقضاض والغارات داخل أراضي المسلمين بعيدا جتى دمشق ، وبسبب بناء هذه القلعة سوف يفقد السلطان مبالغ ضخمة من المال ، وسوف يحتاج إلى

٦٦

نفقات كبيرة ، وخدمات للرجال والممتلكات للذين من دون ذلك سوف يكونوا للقلعة ، وسوف يخسر في أراضيه أيضا قرى ومناطق مزروعة ومراعي ، وإسهامات أخرى ، بما أنهم لن يتجرأوا على زراعة الأرض خوفا من القلعة ، وكنتيجة لذلك سوف تتحول أراضيه للدمار والخراب ، وسوف يكون أيضا مرغما على أن يتحمل نفقات كبيرة ، وأن يستخدم كثيرا من الجنود المأجورين (Stipendiarios) من أجل الدفاع عن دمشق والمناطق المحيطة بها ، وباختصار لقد وجد من التقرير العام أنه لم يكن هناك حصن في البلاد ، مثله : منه سوف يتضرر المسلمون كثيرا ، والصليبيون سوف يلقون مساعدة كبيرة ، والمسيحية سوف تنتشر.

وعندما سمع الأسقف هذا وآراء مشابهة وصل إلى عكا ، وزار مقدم الداوية أرماند دي بيريغورد الذي كان متمددا مريضا ، وسأله المقدم عن الذي رآه في دمشق وسمعه ، وأخبره الأسقف عما بدا له أكثر أهمية ، وذلك مما رآه وسمعه حول كيف كان المسلمون في حالة رعب ، ويرتجفون ، ويبحثون عن إعادة تأكيد حول بناء قلعة صفد ، وبناء عليه ، وفي إشارة إلى ما قد قاله بدأ في إقناعه بقوة وإصرار بأن عليهما أن يكرسا جميع قواهما لبنائها بسرعة في أيام الهدنة ، لكن المقدم قال له وهو يتنهد :

«أيها السيد الأسقف إنه ليس من السهل أن تبني قلعة صفد ، أو لم تسمع أنت نفسك بالذي وعد به : ملك نافار ، ودوق بيرغندي وكونتات وبارونات الجيش حول الذهاب إلى صفد على أساس أنها من الممكن أن تبنى بأمن أكبر ، وبسرعة أعظم ، وكيف أنهم كانوا سيقيمون هناك لمدة شهرين ، وأن يدفعوا مبلغ سبعة آلاف مارك من أجل البناء؟ وفي النهاية هم لم يدفعوا بنسا واحدا من أجل البناء ، وأنت تقول بأن علينا أن نبني القلعة من دون مساعدة أحد؟».

٦٧

ثم إن الأسقف قال : «أيها المقدم إبق مرتاحا في فراشك ، وقدم إرادتك الصالحة ، وتأييدك الفعلي إلى الرهبان ، وأنا لدي إيمان بالرب بأنك سوف تفعل من فراشك أكثر من جيش كامل ، مع حشد من الرجال المسلحين ، وثرواتهم الوافرة» ، وبما أن الأسقف أصر قال الرجال الكبار الذين كانوا هناك : «أيها السيد الأسقف ، لقد قلت ما بدا جيدا بالنسبة لك ، ولسوف يقوم المقدم بالتشاور ، ويرد عليك» ، وعندما انسحب الأسقف من عند المقدم دعا أعيان أعضاء المجلس الاستشاري للداوية وأقنعهم بالذي قاله للمقدم ، وأرضاهم تماما ، وأجابوه بأن عليه القدوم في اليوم التالي ، وأن يجعل المقدم يعرض هذا أمامهم في الاجتماع.

كيف أقنع أسقف مرسيليا مقدم الداوية ومجلسه ببناء قلعة صفد

وجاء في اليوم التالي الأسقف إلى عند المقدم وطلب منه دعوة مجلسه الاستشاري بسبب أنه رغب في أن يتحدث إليهم حول شيء مهم بالنسبة له ، وعندما قدموا قال الأسقف لهم :

«أيها السادة أنا أفهم بأن رهبانيتكم ، قد بدأت أولا بفرسان مقدسين قد كرسوا أنفسهم كليا من أجل حماية الصليبيين ، والهجوم على المسلمين ، وبما أنهم التزموا بذلك بثبات وإخلاص ، مجّد الرب رهبانيتكم ، وجعلها ذات حظوة لدى الكرسي الرسولي ، ولدى الملوك والأمراء ، واليوم إن رهبانيتكم مشهورة كثيرا ، ومعروفة تماما لدى الرب والناس ، ويبدو لي أن عليكم الآن أن تتبعوا مثل هؤلاء الفرسان المقدسين ، وعندما كنت في دمشق تبين لي من كثير من الناس أنه ليس هناك شيئا سوف يخاف المسلمون منه خوفا عظيما مثل بناء صفد ، ولهذا لقد قيل : إنه مع بناء تلك القلعة سوف تنغلق أبواب دمشق ، ونحن أنفسنا رأينا الموقع وتفحصناه ، وأنه معروف بشكل عام إنه من غير الممكن أن تبني قلعة أو حصنا في هذه البلاد بوساطته يمكن حماية المسيحية بشكل جيد جدا ، وكفر المسلمين به يحارب ، مثل صفد ، ولهذا

٦٨

السبب قمت وأنا صديقكم المخلص ، وأنا متنبه لتشريف الرب ، ولخلاص الأنفس ، ولرفع شأن رهبانيتكم ، فسألت ونصحت وطلبت أن تقوموا ، وأنتم العبيد المخلصون للرب ، والمكرسون والفرسان الأقوياء بالنظر إلى الخلف إلى مثل أولئك الفرسان الأوائل الذين أسسوا رهبانيتكم ، وأنه باتباعكم مثل مؤسسيكم بأن تمنحوا أنفسكم ومالديكم لبناء قلعة صفد التي سوف تبقى دوما تهديدا للمسلمين ، ودفاعا عظيما للمؤمنين الصليبيين ، وأنا ـ على كل حال ـ ليس لدي المال الذي سيكون كافيا لهذا العمل ، لكن أنا أعرض للقيام بحج إلى هناك إذا أردتم عمارتها ، وإذا كنتم لا تريدون سوف أبشر بين الحجاج للذهاب إلى هناك معهم للبناء بالمخلفات ، لأنه يوجد هناك كومة كبيرة من الحجارة ، ولسوف أشيد هناك سورا من الحجارة الغشيمة لحماية الصليبيين من هجمات المسلمين».

وعندما سمع المقدم هذا أجاب وكأنه يضحك : «أنت بوضوح قد قررت الذي ينبغي عمله» ، فأضاف الأسقف قائلا : «وأنت اعقد مشاورات جيدة ، وليكن الرب معك» ، وانسحب من عندهم ، ووجه الرب ـ على كل حال ـ اجتماعهم ، فقرروا بالإجماع بأن القلعة المذكورة ينبغي أن تعاد عمارتها الآن ، ماداموا في هدنة مع سلطان دمشق ، لأن الهدنة إذا ما ألغيت يمكن للبناء أن يتأخر بسهولة.

البهجة أثناء بناء قلعة صفد

عندما تقرر وجوب بناء صفد ، كانت هنالك بهجة عظيمة في دير الداوية ، وفي مدينة عكا ، وبين شعب الأرض المقدسة ، ومن دون تأخير جرى اختيار قوة كبيرة من الفرسان ، والسيرجندية ، ورماة القسي العقارة مع رجال مسلحين آخرين وبرفقتهم كثير من دواب التحميل لنقل الأسلحة ، والإمدادات ، والمواد الضرورية الأخرى ، وفتحت مخازن الحبوب ، والأقبية ، وخزائن الأموال ، والدوائر الأخرى بكرم وفرح من

٦٩

أجل الدفع ، وأرسل إلى هناك عدد كبير من العمال والعبيد (operarii et schavi) مع الأدوات والمواد التي احتاجوها ، وفرحت البلاد لدى وصولهم ، وتمجدت المسيحية الحقيقية للأرض المقدسة.

ووصل أسقف مرسيليا نفسه مع هؤلاء الحجاج الذين تمكن من جلبهم ، ونصب خيامه فوق موقع كنيس اليهود ومسجد المسلمين ، وبذلك أشار ، وظهر بوضوح بأن قلعة صفد سوف تعاد عمارتها لإضعاف انعدام إيمان الكفار ، ولتقوية عقيدة ربنا يسوع المسيح ، والدفاع عنها ، وبعدما كان كل شيء مطلوب للشروع بالعمل في هذا المشروع المجيد جاهزا ، وبعد إقامة قداس وصل الأسقف وأعطى موعظة قصيرة لتشجيع إيمان الذين كانوا موجودين ، وتوجه بالدعاء إلى نعمة الروح القدس ، ومع المباركة ، والمهابة المطلوبة وضع الحجر الأول لتشريف ربنا يسوع المسيح ، ولرفعة شأن العقيدة المسيحية ، وعلى الحجر وضع كأسا مذهبا من الفضة كان مملوءا بالمال لدعم العمل المقبل ، وقد عمل هذا في العام ١٢٤٠ للرب في الحادي عشر من إيلول.

كيف تم العثور على بئر للماء العذب داخل قلعة صفد

بما أنه كان هناك نقص بالمياه ، وبما أن الماء كان يجلب من مسافة بعيدة بوساطة عدد كبير من دواب التحميل مع جهد ونفقات أخذ الأسقف يبحث لعدة أيام حتى يعثر على نبع صغير ، ولكي يبني بركة لتجميع الماء فيها ، فقال رجل عجوز من المسلمين لحاجب الأسقف : «إذا أعطاني سيدك ثوبا ، أنا سوف أريه نبع ماء عذب في داخل القلعة» ، وعندما وعده بالثوب أراه المكان ، حيث كان هناك ركام كبير ، وخرائب أبراج وأسوار ، وأكوام كثيرة من الحجارة ، وعندما طلبوا منه مجددا علامة واضحة ، قال : إنهم سوف يجدون سيفا وخوذة من الحديد في فم البئر ، وهكذا وجدوا الأمر كما قال ، ولهذا السبب عملوا بإصرار أكبر وبعزم إلى أن تمكنوا أخيرا من اكتشاف ماء متدفق رائع بكميات وافرة كثيرا

٧٠

من أجل القلعة كلها ، وبقي الأسقف مقيما هناك إلى أن أرسيت أساسات القلعة بثبات ، وصار بإمكانها الدفاع عن نفسها ضد أعداء الإيمان ، وعندما عاد إلى الوطن ، أعطى إلى القلعة ـ وكأنها الابن المنتخب والأحب لديه ـ جميع أطعمته ، وخيامه ، وأثاثه ، وبعدما أعطى مباركته ، عهد بالوصاية على العمل وتقدمه ، وعلى العاملين ، إلى ربنا يسوع المسيح ، الذي على شرفه بدأ العمل ولاسمه جرى تكريس القلعة.

الإنشاء الرائع لقلعة صفد

عندما عاد ـ على كل حال ـ الأسقف نفسه لمساندة الأرض المقدسة ضد التتار في الرابع من تشرين أول [١٢٦٠] ، ووصل لزيارة صفد لقد وجد أنه بين الرحلة الأولى عندما عاد الأسقف إلى مرسيليا ، والرحلة الثانية التي عاد بها إلى صفد أنه بفضل نعمة الرب وحكمته ولنشاط وسمعة رهبان الداوية أن القلعة قد بنيت بصنعة عظيمة ، وروعة كبيرة ، وفخامة إلى حد أن عمارتها بدت بأبهتها وجودتها ، أنها عملت ليس من قبل الإنسان ، بل من قبل الرب القدير.

ولتفهم هذا بكمال أكبر ، ولجعل الأمر أكثر وضوحا : إن قلعة صفد قائمة تقريبا على منتصف الطريق بين مدينتي عكا ودمشق في الجليل الأعلى على قمة محاطة تماما بالجبال والهضاب ، وبجروف صرفه ، ومنحدرات شديدة ، وصخور ، وهي من معظم الاتجاهات لا يمكن الوصول إليها ، وهي لا ترام ، بسبب المصاعب ، والشدائد ، وضيق الطرقات ، وفي جنسارث (المعروفة أيضا ببحر الجليل ، وببحيرة طبريا) توفر ما يشبه المتاريس ، وهؤلاء مثل دفاعات طبيعية على مسافة ، وكان هناك ـ على كل حال ـ دفاعات داخلية وخارجية رائعة من صنع الإنسان ، وأبنية تستحق الإعجاب.

٧١

وليس من السهل أن ينقل الإنسان كتابه أو أن يعبر بالكلام فيذكر كم كان هناك من الأبنية الرائعة ، مثل : الدفاعات الكثيرة الرائعة ، والتحصينات مع الخنادق التي هي سبع قصبات [٤ ، ١٥ م لأن طول القصبة ٢ ، ٢ م] بالعمق المنحوت في الصخر ، وست قصبات بالعرض ، ومثل : الأسوار الداخلية ٢٠ قصبة [٤٤ م] بالارتفاع ، وقصبة ونصف القصبة (٣ ، ٣) بالسماكة عند الرأس ، ومثل الأسوار الخارجية (ante ـ muralia) والخنادق (Scama) عشر قصبات [٢٢ م] بالارتفاع ٣٧٥ قصبة [٨٢٥ م] بالمحيط ، والأنفاق تحت الأرض بين السور الخارجي ، والخندق [الداخلي] ، مع غرف تحت الأرض حول القلعة كلها امتداد ٣٧٥ قصبة [٨٢٥ م] ، ومثل : المنع التي تدعى باسم,Fortie cooperte والتي هي فوق الخنادق ، وتحت السور الخارجي ، حيث يمكن لرماة القسي العقارة مع كوى كبيرة من أجل الدفاع عن الخنادق والأشياء القريبة والبعيدة ، من دون أية وسائل وقاية أخرى ومثل : الأبراج والشرافات (propugnaculis) حيث هناك سبعة أبراج كل واحد منها ٢٢ قصبة [٤ ، ٤٨ م] بالارتفاع وعشر [٢٢ م] بالعرض مع أسوار سماكتها قصبتان [٤ ، ٤ م] في الذروة ، ومثل الكثير من المكاتب لجميع الضروريات ، ومثل عدد وحجم ، وأنواع من المنشآت للقسي العقارة ، والأسهم المربعة الرؤوس ، والآلات ، وكل نوع من الدروع والسلاح بذلت جهود كبيرة جدا لصنعهم ، وأنفقت أموال من أجل إعدادهم ، ومثل عدد الحراس في كل يوم ، والعدد الكبير للحامية المكونة من رجال مسلحين للحراسة وللدفاع ، ولصد الأعداء الذين كانوا دوما مطلوبين هناك ، ولكم كان عدد العاملين كبيرا مع مختلف الحرف ، وكذلك النفقات العظيمة التي عملت من أجلهم يوميا ذلك أنه ليس لائقا المرور بصمت بمثل هذه الأعمال المشهورة جدا ، والاستثنائية كثيرا ، والفائقة الروعة ، والضرورية بلا حدود ، وهي كلها كان من اللازم عملها من أجل تشريف الرب ، وتمجيد الاسم المسيحي ، وفي سبيل

٧٢

تدمير الكفار ، وإعلاء شأن المؤمنين ، ثم إنه جرى الإعلان عن بعضهم لتشجيع تكريس المؤمنين وشفقتهم.

النفقات اليومية الكبيرة من أجل حراسة قلعة صفد

إنه على هذا من أجل تشريف ربنا يسوع المسيح ، ولإظهار قوة التكريس ، والحاجة العظيمة للفرسان المقدسين لرهبانية الداوية ، ولتشجيع التكريس والشفقة ، ولإلهاب محبة المؤمنين المسيحيين نحو الرهبانية والقلعة سوف نقدم تفاصيل النفقات التي عملها الداوية هناك من أجل البناء لأنني سألت ، وبعناية استفسرت من أعيان الرجال ، ومن خلال رجال دير الداوية : لقد أنفق دير الداوية في العامين الأوليين ونصف العام على بناء قلعة صفد أحد عشر ألف دينار إسلامي ، وذلك بالإضافة إلى الموارد التي جاءت من القلعة نفسها ، وأنفق في كل عام تالي ، أكثر أو أقل من أربعين ألف دينار إسلامي ، ففي كل يوم وزعت الأطعمة على ٧٠٠ ، ١ إنسان أو أكثر ، وفي أوقات الحرب على ٢٠٠ ، ٢ ، لأن ترسيخ (Stablimento cotidiano) القلعة احتاج يوميا خمسين فارسا ، وثلاثين سير جنديا ، كلهم من الرهبان ، وخمسين توركبليا مطلوبين مع خيولهم وأسلحتهم ، وثلاثمائة من رماة القسي العقارة ، والأعمال والمكاتب الأخرى إلى ثمانمائة وعشرين رجلا ، وأربعمائة من الرقيق ، ولقد استخدم هناك في كل عام معدلا يزيد عن ٠٠٠ ، ١٢ حمل بغل من الشعير والقمح فيما عدا الأطعمة الأخرى ، وذلك بالإضافة إلى رواتب الجنود المرتزقة ، والأشخاص من المأجورين يضاف إلى ذلك الخيول ، وأشياء ، وأسلحة ، وضروريات أخرى ليس من السهل تعدادها.

فخامة قلعة صفد

بذلت جهود كبيرة جدا لم تكن من دون فائدة في سبيل إظهار عظمة القلعة ، وكانت جهودا مرهقة لا يمكن الاستغناء عنها أو غير كافية ، أو

٧٣

غير موائمة لسكناها ، وينبغي أن نعرف أن قلعة صفد تمتلك مناخا معتدلا وصحيا ، وبساتين غنية ، وكروم ، وأشجار ، وأعشاب لطيفة ضاحكة ، وهي غنية وكثيرة الوفرة والخصب في أنواع الثمار والفواكه ، فهناك : تين ، ورمان ، ولوز ، والزيتون ينمو هناك ويزدهر ، فالرب باركها بالمطر من السماء ، وبالثروة من التربة ، وبوفرة من القمح ، والكروم ، والزيت ، والقطاني ، والأعشاب ، وفواكه مختارة ، وكميات كبيرة من الحليب ، والعسل ، ومراعي موائمة من أجل إطعام الحيوانات ، وفضاءات ، وأشجار ، وغابات من أجل صنع الفحم ، أو من أجل طبخ كميات كبيرة من الأطعمة ، ومقاطع من أجل حجارة جيدة في المكان من أجل أعمال البناء ، وللسقاية من الينابيع ، ومن أجل برك كبيرة لسقاية الحيوانات والمزروعات ليس فقط خارج القلعة ، بل حتى في داخلها ، حيث هناك ماء عذبا بوفرة ، وعددا كبيرا ، وأنواعا من البرك المناسبة لأي غرض.

ويوجد هناك اثنتي عشر طاحون ماء خارج القلعة ، وكثيرا أكثر تستمد طاقتها من الدواب أو من الريح ، وأكثر مما إليه حاجة من الأفران ، وذلك كما ينبغي ، ولم يكن هناك أي نقص في أي شيء يحتاجه النبلاء أو القلعة ، وهناك أنواعا كثيرة من الصيد وأنواعا كثيرة من الأسماك في نهر الأردن ، وبحيرة طبرية ، ذلك أن بحيرة طبرية بحيرة كبيرة ، ومن أماكن أخرى ، حيث يمكن جلب الأسماك الطازجة أو المملحة يوميا.

وبين سمات الفخامة الكثيرة التي امتلكتها قلعة صفد هي أنه معلوم أنها يمكن الدفاع عنها بوساطة قلة ، وأن كثيرين يمكن أن يحتشدوا فيها تحت الحماية من أسوارها ، وأنه لا يمكن حصارها إلا بوساطة حشد كبير جدا ، لكن مثل هذا الحشد لن يمتلك الإمدادات لوقت طويل ، لأنه لن يجد الماء ولا الطعام ، كما أنه لا يمكن لحشد كبير أن يقترب منها

٧٤

في الوقت نفسه ، وإذا ما تفرق أفراده في أماكن نائية ، فإنهم لن يستطيعوا مساعدة أحدهم الآخر.

فائدة القلعة والأماكن المحيطة والمرتبطة بها

يمكنك أن تدرك كم كانت القلعة مفيدة وضرورية لجميع الأراضي الصليبية ، وكم كانت مؤذية للكفار ، فذوي الخبرة الذين عرفوها من قبل أن تبنى عرفوا بأن : المسلمين ، والبدو ، والخوارزمية والتركمان اعتادوا على الإغارة على عكا ، والتوغل في الأراضي الأخرى التابعة للصليبيين ، لكن ببناء قلعة صفد تم وضع حصن وحاجز ، فلم يعودوا يتجرأون على الذهاب من نهر الأردن إلى عكا ، إلا إذا كانوا بأعداد كبيرة جدا ، لكن بين عكا وصفد كان يمكن لدواب النقل المحملة والعربات العبور بسلام ، وكان من الممكن تشغيل الأراضي الزراعية بحرية ، ومن جهة أخرى بقيت البلاد بين دمشق ونهر الأردن غير مزروعة ، وكانت أشبة بصحراء للخوف من قلعة صفد ، في حين أن الغارات الكبرى منها ، والسلب والنهب ، وإحداث الدمار كانت تصل بعيدا حتى دمشق ، وهناك ربح الداوية عددا كبيرا من الانتصارات الإعجازية ضد أعداء الإيمان ، وهي انتصارات ليس من السهل تعدادها ، حيث يمكن كتابة كتاب كبير حولها.

وينبغي ـ على كل حال ـ أن لا نغفل عدم ذكر أنه تحت قلعة صفد في اتجاه عكا ، هناك بلدة أو قرية كبيرة (Burgus sive villa magna) فيها هناك سوق وعدد كبير من السكان ، وهي يمكن الدفاع عنها من القلعة ، بالإضافة إلى ذلك كان تحت سيادة قلعة صفد ، وفي منطقتها أكثر من مائتين وستين قرية ، التي كانت تدعى بالفرنسية فيلات Ville ، كان فيها أكثر من عشرة آلاف رجل مع قسي وسهام ، وذلك بالإضافة إلى آخرين ، من الذين يمكن منهم جمع مبالغ كبيرة من المال ، حتى يجري تقسيمها بين قلعة صفد ، والرهبانيات العسكرية الأخرى ، والبارونات ،

٧٥

والفرسان ، الذين إليهم تعود ملكية القرى ، والذين كان يجبى منهم قليلا أو لا شيء قبل بناء صفد ، كما لا يمكن جبايتها هذه الأيام ، لولا أن القلعة قد بنيت لأن الجميع كانوا في يد سلطان دمشق والمسلمين الآخرين.

وعند تقدير الفوائد والمنافع إن الشيء الأكثر أهمية ، وينبغي عدم تجاوز ذكره ، هو أنه بات الآن ممكنا التبشير بعقيدة ربنا يسوع المسيح بحرية ، في جميع هذه الأماكن ، وأن يجري النقض والنقض علنيا في القداسات تجديفات محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الأمر الذي لم يكن ممكنا قبل بناء صفد ، ولم يعد المسلمون يقدمون ـ كما كانوا يفعلون من قبل ـ على إعلان تجديفات محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ضد عقيدة ربنا يسوع المسيح ، وصار الآن بالإمكان زيارة الأماكن المشهورة التي هي موجودة في منطقة صفد ، مثل بئر يوسف ، حيث جرى بيعه من قبل إخوته ، ومدينة كفرناحوم التي هي على حدود زبلون ، ونفتالي ، حيث عاش ربنا يسوع المسيح ، وبدأ أعمال تبشيره ، وعمل كثيرا من المعجزات ، وحيث دفع بطرس الجزية بدينار وجده في فم سمكة ، عن نفسه وعن الرب يسوع المسيح ، وحيث جلس متى على مائدة التعشير ، ومن حيث أخذ ليصبح رسولا.

ومثل هذا ، وقريب من هنا على الجبال باتجاه طبرية هناك المكان ، الذي أطعم فيه ربنا وأشبع خمسة آلاف إنسان بخمسة أرغف من الشعير ، واثنتي عشرة سمكة مع اثنتي عشرة سلة من الفتات قد زادت ، وعلى مقربة من هناك المكان الذي أظهر فيه يسوع نفسه إلى تلاميذه ، وأكل معهم حسبما نقرأ في الإنجيل من أجل الأحد الرابع بعد الفصح ، وذلك المكان الذي يدعى بشكل عام باسم مائدة الرب ، حيث هناك كنيسة ، ومحج مهيب ، ومجددا وعلى مقربة من هناك وإلى جانب بحيرة طبرية هناك قرية تدعى بيت صيدا ، حيث ولد بطرس ، وأندرو ،

٧٦

وفيليب ، وجيمس الأصغر ، وحيث اختار المسيح : بطرس ، وأندرو ، وابني زبدي الاثنين ، ليكونوا رسلا ، ومرة أخرى على مقربة من هناك ، وإلى جانب بحيرة طبرية ، وباتجاه مدينة طبرية هناك مكان يدعى مجدلون ، حيث قيل إن هناك ولدت مريم المجدلية ، وهناك أماكن هي حتى أكثر قداسة مثل : الناصرة ، وجبل الطور ، وقانا الجليل ، وأماكن أخرى كثيرة من الممكن زيارتها بحرية أكبر ، وأمان ، بسبب بناء قلعة صفد ، ولهذا السبب من الممكن رؤية كم هو كثير الذي أزيل وانتزع من المسلمين الكفار ، وإلى أي مدى بعيد نمت المسيحية وتوسعت بسبب بناء قلعة صفد وتأسيسها ، لأنها عملت من أجل التضييق على المسلمين ، وإضعافهم ، وكبحهم ، ولتوسيع ، ومضاعفة وراحة الإيمان ، ولتشريف مولانا يسوع المسيح ، ولتمجيد كنيسة المولى الرب ، آمين.

٧٧

فتح صفد

لشاهد العيان

المؤرخ الداوي الصوري

٣٤٥ ـ مع عام ١٢٦٦ للمسيح ، كان بيبرس هو السلطان ليس فقط لمصر ، بل لجميع المسلمين ، لأنه في أيامه لم يكن هناك سلطان آخر غيره في أي بلد من بلاد المسلمين ، وكان جميع العالم غير المسيحي تحت سلطانه.

٣٤٦ ـ ووصل السلطان إلى خارج عكا ، حيث مكث ثمانية أيام من حزيران ، ثم ذهب إلى صفد (وكانت صفد قلعة الداوية ، وكانت قلعة جميلة وحصينة جدا ، قائمة في الجبال على بعد سفر يوم من عكا) ، وقد أرسل إلى الرجال الذين كانوا في القلعة هدية ، حسب عادة المسلمين ، غير أن الرجال الذين كانوا في القلعة استخدموا المجانيق لرمي الهدايا وإعادتها ، وهذا جعل السلطان غاضبا كثيرا ، فأعدّ على الفور آلات حصاره ، وقد هاجموا القلعة ، وقام بعدة حملات عليها خلال العشرين من تموز ، وذلك عندما استولى عليها ، ولسوف أخبركم كيف استولى عليها.

٣٤٧ ـ عندما استولى رجال السلطان على التحصينات الاولى للقلعة ، عانوا من إصابات ثقيلة ، لأن الذين كانوا في الداخل كانوا جنودا جيدين : فرسانا وسير جاندية ، وخشي السلطان من أنه لن يكون قادرا على الاستيلاء عليها بالقوة من دون فقدانه لعدد كبير من رجاله ، فأوقف الهجوم ، وأمر بالمناداة بصوت مرتفع والإعلان : أنه يمكن لجميع السريان (من سيرجاندية ورماة) الخروج من القلعة بأمان منه ، وقد فعل هذا لإظهار عدم اتفاق بين الفرنجة والسريان ، لأن الفرنجة سوف يتهمون السريان بأنهم خونة ، وبذلك سوف يكون هناك صراع فيما بينهم.

ثم هاجمهم السلطان بشدة ، ولأن الذين كانوا في الداخل قد فقدوا

٧٨

خطوط الدفاع الأولى ضعفوا ضعفا شديدا ، وكانوا على خلاف شديد فيما بينهم ، ولم يكن بإمكانهم تلقي أي عون من أي مكان ، لأن القلعة كانت محاطة من قبل المسلمين من جميع الجهات ، ولذلك نادوا إلى المسلمين بإيقاف القتال ، لأنهم يريدون إرسال رسول إليهم ، وجرى إعلام السلطان بهذا ، فعلق الهجوم ، وعقد الذين كانوا في القلعة اجتماعا وقرروا أن يرسلوا سرجاندي داوي راهب إلى السلطان ، كان اسمه الراهب ليو كاساليرLeo casalier ، المسؤول عن إدارة إقطاعية صفد ، وكان بارعا في التحدث بلغة المسلمين ، وقد كلفوه بطلب الأمان لنفسه وإلى الفرنجة ، أي مثل الأمان الذي منحه السلطان إلى السريان ، من خلال الاعلان الذي نودي به.

وذهب ليو هذا ، ووصل إلى السلطان ، وأعطاه الرسالة ، وأعطاه جوابا جيدا بالعلن ، لكنه تحدث بعد ذلك على انفراد مع الراهب ليو هذا ، وأخبره بأنه كان غاضبا من الرجال الذين في القلعة ، الذين رموا إليه معيدين هديته ، وقتلوا عددا كبيرا من رجاله ، وأنه يرى إعدامهم جميعا ، وفي سبيل تحقيق هذه الغاية هو عازم على تقديم الأمان على يد أمير كان يشبهه ، ثم يجعلهم بعد ذلك طعمة لسيفه ، وإنه إذا ما رغب ليو بالتعاون معه وتسهيل هذا العمل ، فإن السلطان سوف يعطيه جميع الأشياء الممتازة ، لكنه إذا رفض ، فهو عندما سيستولي على القلعة ، سوف يقتله ، لكن بشكل شنيع خاص.

وعندما سمع الراهب ليو السلطان ارتعب رعبا شديدا ، فوافق على أن يعمل كما رغب ، وعاد إلى القلعة وأخبرهم بأن السلطان صدق على منح الأمان إلى كل واحد ، وأن السلطان نفسه سوف يقسم لهم على مرأى منهم ، فكان هناك سرور عارم بين الذين كانوا في القلعة على هذا.

وعندما حل الصباح التالي ، أرسل السلطان الأمير الذي يشبهه ، وجعله يذهب إلى أمام القلعة ، مع جميع الأبهة العائدة إليه شخصيا ،

٧٩

وعندما رآه الذين كانوا في القلعة ، ظنوه أنه هو السلطان ، وشعروا بثقة تامة وكبيرة ، لكنهم كانوا قد خدعوا وغدر بهم.

وأقسم الأمير على منحهم أمان جيد ومضمون إلى أن يصلوا إلى عكا ، وهكذا خرجوا من القلعة مع تجهيزاتهم محملة على البغال ، وكانوا جاهزين للذهاب على الفور إلى عكا ، ذلك أنه لم يكن هناك طريق من صفد إلى عكا يستغرق أقل من سفر يوم واحد ، وأخبرهم السلطان أن عليهم الاستراحة تلك الليلة ، وأنه في الصباح سوف يرسلهم إلى عكا ، وقد أرغموا على فعل هذا.

وفي الصباح تدبر اعتقالهم جميعا ، واقتيدوا إلى مسافة ما عن صفد ، إلى رابية صغيرة على بعد حوالي نصف فرسخ ، وهناك جرى إعدامهم بقطع رؤوسهم ، ثم أمر بعمل جدار من حولهم ، وعظامهم ورؤوسهم ما يزال بالإمكان رؤيتها ، وقد قيل ـ وهذا أمر مؤكد ـ بأن نورا من السماء قد أشع فوق أجسادهم مرارا كثيرة ، وقد رأى هذا النور بعض المسلمين وبعض المسيحيين ، وكان بينهم اثنان من الفرنسيسكان اللذان أبقياهم ثابتين متمسكين بالإيمان بالوعظ إليهم ، الوعظ الذي كان مفيدا جدا لنفوسهم.

وبالنسبة للراهب ليو كاسالير ، الذي اقترف هذه الخيانة خوفا من الموت ، فقد ارتد وأصبح مسلما.

والآن سوف أخبركم عن شيء آخر ، فعله السلطان.

٣٤٨ ـ عندما استولى السلطان على قلعة صفد ، كما سمعتم الآن ، غادر وذهب إلى مملكة أرمينيا ، التي تمتلك مدخلا ضيقا جدا ، ومحروسا حراسة جيدة ، ومع ذلك شق طريقه بالقوة ، وجال مدمرا خلال المنطقة كلها ، ناهبا ومخربا كثيرا من القرى ، وآخذا عامة الناس أسرى ، وكان ملك أرمينيا غائبا ، كان قد ذهب لزيارة التتار ، وترك وراءه ابنيه ، اللذان كان اسم الأول منهما طوروس ، واسم الثاني ليون ، وقتل السلطان طوروس ، وأخذ ليون حيا ، وأحضره معه عندما عاد إلى القاهرة ، مع كثير من الناس العظماء والعاديين من رجال المملكة.

٨٠